ظهرت موسيقى أستطاعت أن تحدث تغييرات جذرية لمفهوم الموسيقى الغنائية الذي اعتدنا عليه، وهو ما يطلق عليه اسم موسيقى الـ"راب" أو باللغة الإنجليزية Rap.
فرغم الميزات والتباينات الملحوظة بين كافة أنواع الموسيقى الغنائية، إلا أن القواسم المشتركة بين هذه الأنواع كثيرة نسبيا، بدءا بالأداء الصوتي والآلات الموسيقية المستخدمة، وانتهاء بالمواضيع التي تتطرق لها أغاني كل نوع.
ومن هذا المنطلق تميزت موسيقى الراب، إذ لا يوجد هناك أي شبيه لها، ذلك أنها ألغت كافة المعايير، وأوجدت بعدا مبتكرا لعالم الموسيقى الغنائية.
بداية، لابد من توضيح نقطة أساسية، ألا وهي التمييز بين مصطلحي "الراب" Rap و"الهيب هوب" Hip Hop، فواحد من أكثر الأخطاء الشائعة، هو الاعتقاد بأن كلا المصطلحين لهما المعنى ذاته.
فالهيب هوب، حركة ثقافية أسسها الأمريكيون ذوي الأصول الأفريقية في نيويورك بسبعينيات القرن العشرين، ومبنية على أربعة عناصر أساسية:
1- موسيقى "الراب"2-"الدي جيه" DJ، والمقصود به فن تشغيل الأقراص الموسيقية والتلاعب بها-3رقصة "البريك دانس" Breakdance، وأخيرا "فن الرسم على الجدران" Graffiti Art.
وبالتالي، فعندما نتحدث عن الراب، فإننا نتحدث عن جزئية معينة، ألا وهي الموسيقى الخاصة بثقافة الهيب هوب، وليس الهيب هوب بأكمله.
أما بالنسبة للمعنى الذي تشير إلية كلمة "راب" RaP، فهنالك آراء مختلفة بشأنها، أقربها إلى الصحة هو أنها لفظ مختصر للحروف الأولى من عبارة "الشعر الأمريكي الإيقاعي" Rhythmic American Poetry، أو "الإيقاع والشعر" Rhythm And Poetry.
ومن جهة أخرى، ومن باب الدعابة، يهزأ المناهضون لهذا النوع من الموسيقى قائلين، إن الكلمة هي اختصار لـ"متخلفين يجربون الشعر!" Retards Attempting Poetry!
ولتقديم شرح مختصر لمفهوم الراب، نقول؛ هي موسيقى غنائية سريعة، يقوم مؤديها بترديد (وليس غناء) إيقاعي سريع لكلمات الأغنية المكونة من عدد كبير من القوافي، تعالج مواضيع شخصية واجتماعية وسياسية وعاطفية، غالبا ما تكون مثيرة للجدل ومتحررة إلى حد كبير وخالية من أي تحفظ.
وبما أن مؤدي الراب لا يغني كلمات الأغنية بل يرددها، فإن جمال صوته يعد عاملا ثانويا، لذا لا نطلق عليه اسم "مغني"، بل "مؤدي راب" أو بالإنجليزية Rapper.
ويعود الفضل في الانتشار العالمي لهذه الموسيقى، لجهود وعبقرية عدة أفراد، أشهرهم وأكثرهم أهمية، "ميلي ميل" Melle Mel، وفرقة "إن دبليو إيه" NWA، و"توباك شايكر" Tupac Shakur، و"بيغي سمولز" Biggie Smalls، "وبيغ إل" Big L و"راكيم" Rakim، و"جاي زي" Jay Z، و"ناز" Nas، و"إمينيم" Eminem، و"إمورتال تيكنيك" Immortal Technique، والذين سنتعرض لهم لاحقا بشكل مفصل.
الجذور الأولى
كانت بداية هذه الظاهرة في أوائل سبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى وجه التحديد في مدينة نيويورك.
ومن بين أهم المؤسسين الأوائل لهذا النوع من الموسيقى، "جيل سكوت هيرون" Gil Scott Heron، وهو شاعر أمريكي ومغني جاز وبلوز، أطلق عليه العديدين اسم "الأب الروحي للراب"، حيث قام في أحد المرات بإلقاء أحد أعماله الشعرية بأسلوب إيقاعي سريع، مختلف عما هو معهود عليه في الشعر، فكانت تلك الشرارة الأولى التي أشعلت ظاهرة الراب.
أما من الناحية التقنية، فكان فنان الدي جيه DJ المهاجر الجامايكي "كول هيرك"Kool Herc، أحد المقومات الأساسية في ابتكار ألحان وإيقاعات هذه الموسيقى السريعة، إذ يعود له الفضل في تصميم العديد من الأنماط الإيقاعية السائدة حاليا في عالم الراب. فمنذ سن الثانية عشرة، بدأ هيرك بتقديم الحفلات الغائية في البرونكس بنيويورك، ومن دون أن يتقاضى أجرا عليها.
وكانت أغلب ألحان وإيقاعات موسيقى الراب في عقد السبعينيات هي من إنتاج أو ابتكار كول هيرك.
ومن ثم جاء "ميلي ميل" Melle Mel في نهايات السبعينيات، ليمهد الطريق للعديد من الفنانين من بعده.
فقد لعب ميلي ميل، أحد أعضاء فرقة "الفيوريس فايف" The Furious Five دورا مهما في نشر موسيقى الراب، من خلال أسلوبه المبتكر في التلاعب بالكلمات والمحتوى السياسي- الاجتماعي، الذي امتازت به أغانيه.
وبعدها أخذت شعبية الراب بالتزايد شيئا فشيئا، إلى أن تغلغلت في معظم شوارع أمريكا بحلول نهاية الثمانينيات، بفضل العديد من مؤديين وفرق الراب، وأشهرها فرقة "إن دبليو إيه"، وهي واحدة من أكثر الفرق شعبية، وطغت على معظم المنافسين بفضل ابتكارها لأساليب جديدة أضافتها على تلك الموسيقى، إذ قامت بتقديم أقدم أنواع موسيقى الراب، وهو ما يطلق عليه إسم راب العصابات Gangsta' Rap.
وتفرق أفراد الفرقة وهم، إيزي إي Eazy-E، ودكتور دري Dr. Dre، وآيس كيوب Ice Cube، وإم سي رين MC Ren، في مطلع التسعينيات، ليتابع كل منهم مسيرته الفنية بشكل فردي، وأشهرهم في يومنا هذا هو الدكتور دري، الذي توجه نحو الإنتاج ورعاية الفانين والترويج لهم.
عناصر الراب الاساسية
فأداء الأغنية ليس مهماً كما هو الحال في أغاني الأنواع الموسيقية الأخرى، وبدلاً منه، هناك شيء آخر هو الإلقاء، وهو ثاني أهم مهمة لمؤدي "الراب".
أما المهمة الأولى الأساسية، والتي تعد المرجع الرئيسي في التمييز بين مؤديي الراب، هي كتابة الأغنية.
فجميع مؤدو الراب يكتبون أغانيهم بأنفسهم - وهنا يكمن السبب في التعرض للمسائل الشخصية المعني فيها المؤدي نفسه- باستثناء قلة محدودة "مستهجنة" من قبل محبي هذا النوع.
أما العناصر الأساسية للراب، فهي أربعة عناصر تتمحور على الأغلب حول التقنية المتبعة في كتابة كلمات الأغنية.
- وأول هذه العناصر هو "الدفق" Flow: ويقصد به التزامن والتوافق بين أطوال الأسطر في الأغنية والإيقاع.
فحتى يكون الدفق جيدا، يجب أن يكون طول الأسطر متناغما مع الإيقاع، بحيث يتساوى عدد المقاطع في السطر الواحد مع تلك المقاطع في السطر الذي يليه، ومع سرعة الإيقاع، أو ما يسمى بالـ"تمبو" Tempo.
- ثانيا، هناك عنصر "الإلقاء" Delivery: ويقصد به الأداء الصوتي من حيث إضفاء المعنى المراد على الكلمات المرددة من خلال نبرة صوت تناسب وموضوع الأغنية، والتناغم الصوتي مع اللحن، بإظهار العاطفة الملائمة قي الوقت الملائم أثناء ترديد سطر معين، كالتعبير عن عاطفة الغضب برفع نبرة الصوت، أوالحزن والأسى بخفض النبرة، وإضفاء نوع من الهدوء والتأثر.
- أما العنصر الثالث، فهو "الفكرة" أو "المحتوى" Concept/Lyrical Content: فكأي عمل فني، لابد من وجود فكرة، أو عبرة، أو مغزى، أو مضمون لهذا العمل. وفي الراب، يقصد بالمحتوى، الموضوع الأساسي الذي تتحدث عنه الأغنية والمعاني المتجلية وراء الكلمات، ويمكن أن تجمع أغنية واحدة عدة مواضيع، تربطها فكرة رئيسية.
- وأخيرا وليس آخرا، "التعقيد الكلامي" Lyrical Complexity: وهذا العنصر هو الوسيلة الأفضل في التمييز بين مؤدي الراب الموهوب عن غيره، لأن مهارة التعقيد الكلامي تشير إلى إبداع حقيقي.
ويتفرع العنصر الأخير إلى عدة نقاط، أبرزها، "القوافي المركبة" Multi-syllabic Rhymes، ويقصد بها، انتهاء الأسطر بقافيتين متتاليتين أو أكثر، بدلا من انتهاء الأسطر بقافية واحدة.
وهناك أيضا "القوافي الداخلية" Internal Rhymes، ويقصد بها، أن يتخلل السطور قوافي أخرى، غير تلك التي تكون في نهايات الأسطر. فمن الممكن أن توجد قوافي في بدايات الأسطر وفي وسطها، ولكن بالطبع ليس على حساب القوافي في أواخر الأسطر.
كما يندرج تحت التعقيد الكلامي، "التعبيرات المجازية والتشبيه" Metaphors and Similes، وهي ذاتها المستعملة في الكتابات الأدبية، ولكن بأسلوب عصري أكثر، وأقل تعقيدا.
أما "التلاعب بالكلمات" Word Playing، فهو عنصر يضفي نوع من الدعابة، ويعني استعمال كلمات تحتمل أكثر من معنى، في سياقات طريفة مبتكرة، والتلاعب بالحروف والكلمات لإيصال الفكرة بأسلوب أكثر إبداعا.
ومن النقاط الأخرى في التعقيد الكلامي، "الجناس الاستهلالي" Alliteration، وهو شائع في الأدب كذلك، ويقصد به التماثل في بدايات الأصوات بالكلمات المتتالية في السطر الواحد، كأن تبدأ كلمتين متتاليتين أو أكثر بنفس الحرف.
وبهذا، فإن خلت الأغنية من عنصرين أو أكثر من أصل أربعة، فإنها حتما أغنية راب رديئة، أيا كان العنصران.
أما بالنسبة للحن، فهو محل جدل كبير، ذلك أن الألحان تعتبر عاملا حيويا مهما، يضفي على الأغنية جمالية كبيرة.
إلا إنه وللأسف، باتت معظم أغاني الراب الحديثة تركز على اللحن مهملة المحتوى والتعقيد الكلامي، وبالتالي تنعدم أهمية اللحن إن كان على حساب المحتوى والتعقيد الكلامي.
ومن هنا ارتأى العديد أن يعزلوا اللحن عن العناصر الأساسية، في حين يعارض كثيرون هذه الفكرة، متذرعين بأهمية اللحن في الأغاني بشكل عام.