"رسائل البحر"..فيلم يختلف في بنائه الدرامي عن القوالب السينمائية المعروفةبين الإنسان والطبيعة، دائماً هناك حوار يحمل كل المعاني، والرموز، والإيحاءات، والخبرات، بل والشتائم إن لزم الأمر، لكن المشكلة أن كل طرف يستخدم لغة لا يدركها الطرف الآخر، فمن الذي يفهم "رسائل البحر"؟!
وسط خضمّ من أفلام "الهلس" المبتذلة التي تحمل خطراً أشد هولاً من وباء إنفلونزا الخنازير، وزلزال هاييتي، عاد المبدع داوود عبد السيد برائعة جديدة اسمها "رسائل البحر"، بعد غياب 7 سنوات منذ رائعته الأخيرة "أرض الخوف" مع الأسطورة الراحل أحمد زكي، ليحمل بعودته آخر ما تبقى من رائحة العملاق الأسمر الذي كان من المفترض أن يجسد دور "يحيى - آسر ياسين" في الفيلم، بينما كان من المفترض أن تجسد هيفاء وهبي دور "نورا - بسمة" ليضعنا الفيلم أمام مباراة متعددة الأطراف.. بين أسطورة رحلت، وموهبة فذة وُلدت للتو.. بين أفلام تحمل ألفاظاً خادشة للحياء ومتاجرة بآلام الفقراء، وأخرى تحمل كلماتها معاني راقية وفكرا عميقا ورسالة صالحة لكل الجمهور، مهما اختلفت عقلياتهم وثقافاتهم.. بين مخرجٍ لعنت الغالبية مشاهده الساقطة المتكررة التي لا يجيد سواها، وآخر صفّق المعظم لرؤيته ورسالته حتى وإن شابها بعض التجاوزات؛ لأنه لم يقصد أن يتاجر بهذه التجاوزات لمغازلة المراهقين!
أجمل ما في "رسائل البحر" أنه يختلف في بنائه الدرامي عن كل القوالب السينمائية المتعارف عليها، فلا تجد في بدايته "الخطفة الأولى" التي غالباً ما تكون جريمة قتل، أو مطاردة سيارات، وغيرها من التفاصيل التي يستعين بها المخرجون لتشحذ الأذهان وتسرق الألباب منذ أول دقيقة في الفيلم؛ لضمان السيطرة على المُشاهد وإدخاله في "مود" الفيلم، ولا تجد بعدها النداء الذي يأتي للبطل حتى يصل من خلاله لعقدة الفيلم، قبل أن تحدث المواجهة التي يعاني فيها وينهزم ثم ينهض من جديد ليقف على قدميه وينتصر، أو على الأقل يحل العقدة، بل إن الفيلم كله عبارة عن عقدة كبيرة لا تعرف من أين بدأت ولا كيف ستنتهي، ونداء خفي تستشعره في كل مشهد وكل كلمة، ورسالة مطاطة تحمل بين طياتها كل الكلام بكل اللغات، لتصلح لكافة العقول والقلوب، حتى أنك تجد نفسك تشعر أن الرسالة موجهة إليك أنت بالذات.. فالفيلم لا هو رومانسي، ولا أكشن، ولا تراجيدي، ولا حتى ميلودراما، بل ملحمة فلسفية تحمل بصمات دوواد عبد السيد المميزة، لتغوص في أعماقك وتعيد إلى عقلك الباطن تساؤلات عديدة طالما سألناها لأنفسنا دون أن نجد لها إجابة:
أروع ما في الفيلم أن شخوصه بشر حقيقيون من لحم ودم مثلك تماماًلماذا يُخلَق أحدنا مريضاً والآخر سليما؟ لماذا يحسد الضعيف القوي على قوته، بينما يحسد القوي الضعيف على عقليته؟ ما هو المعيار الذي يوزّع به الله الأرزاق على البشر؟ وغيرها من الأسئلة الفلسفية الكونية التي طرحها عقل آدم منذ بدء الخليقة، وسيظل البشر يرددونها طوال الوقت، حتى آخر نفس يخرج من آخر شخص على وجه الكرة الأرضية، دون أن يصل أحدهم للإجابة الحاسمة، ومن هنا تأتي عبقرية الفيلم الذي يجتهد معك دون أن يعدك بالوصول لحل نهائي، فتتفق مع آرائه في بعض المشاهد، وتستغفر الله في بعض آخر، بينما تجد نفسك حائراً لا تملك حق القبول أو الرفض في البعض الثالث!
أروع ما في هذه الاجتهادات أنها قُدّمت من خلال نماذج حية في شخصيات تُقسم وأنت تشاهدها أنها ليست مجرد "كاركترات"، بل بشر حقيقيون من لحم ودم مثلك تماماً، لتنسى تماماً تلك الشاشة التي تفصلك عنهم، وتظن أنك تطل عليهم من خلف لوح زجاجي يعيشون خلفه، بل تشعر أنك لو كسرت هذا الحاجز الزجاجي لوجدتهم خلفه بنفس ضحكاتهم، ودموعهم، وصراعهم مع الحياة..
فـ"يحيى - آسر ياسين" ذلك الطبيب الذي ترك الطب بسبب سخرية المجتمع من مرضه بتأخر الكلام و"التهتهة" قبل أن يعمل صياداً يصطاد من البحر ما رفض الآخرون أن يمنحوه إياه، و"نورا - بسمة" تلك الزوجة الثانية التي يعيش معها زوجها كأنها عشيقته التي يقابلها في السر وممنوع أن تحمل منه، أو يعرف أحد بأمر زواجهما، فتتنكر في دور العاهرة لتتسوّل الحب من الشخص الشريف البريء الوحيد الذي قابلته، و"قابيل - محمد لطفي" ذلك الملاكم القديم الذي يعمل "بودي جارد" رغم أنه أقسم داخله ألا يضرب أحداً مهما كان، فيكتشف أنه مصاب بصرع يستدعي إجراء جراحة عاجلة حتى يشفى، لكن هناك احتمال أن يفقد ذاكرته بالكامل بعد انتهاء العملية، و"بيسة - مي كساب" تلك الراقصة الشعبية البسيطة التي لا تعرف ماذا تريد من الحياة، و"الحاج هاشم - صلاح عبد الله" صاحب البيت الذي يدَّعي التدين والإيمان بالله، لكنه مثل القطار الذي لا يتورع عن دهس أقرب المقربين إليه إذا كان في "فرمهم" مصلحته والوصول لمحطته التي يود الوصول إليها، وغيرها من الشخصيات التي لا يمكنك أن تحكم عليها حكماً نهائياً بالصلاح أو الفساد.. هم نحن بكل التناقضات التي نعيشها، وأراهنكم القول أننا دائماً ما نسأل أنفسنا: هل نحن صالحون أم فاسدون؟
وكل من تكون إجابته بأنه صالح يخشى أن يدخل النار، وكل من كانت إجابته بأنه فاسد يتعشم في رحمة الله التي ستلقيه في الجنة!
آسر ياسين دوره كان للفنان أحمد زكي.. وهو الذي قام به فعلاً!الفيلم غنيّ بالجمل الحوارية العميقة الجبارة التي تستوقفك كل جملة منها لتتمنى لو أنك أوقفت الفيلم لتفكر فيها بعد أن قرعت جرساً قوياً في عقلك، وقبل أن تصل للتحليل والفهم الكامل تباغتك جملة أخرى بتأثير أقوى وأعمق ليتقاذفك الحوار بين ثناياه، وتتلاعب بك الجمل البصرية ذات الدلالات السهلة الممتنعة التي تستخدم أبسط الأدوات لتحقيق أعمق الإيحاءات والمعاني، ويبهرك الأداء التمثيلي العالمي لكل الفنانين سواء من قام بالبطولة، أو الأدوار الثانية، أو حتى الثالثة، لتذوب ذوباناً في كوكتيل إنساني فني غني بما هو أرقى وأكبر من الكلام، ليأخذك الفيلم على مدار ما يقرب من ساعتين وربع إلى عالم آخر لا تعرفه، رغم أنك تدرك أنه يدور في مدينة الإسكندرية التي يعرفها كل سكان مصر، لكنها أبداً لم تكن الإسكندرية التي عرفناها من قبل!
حتى الجنس الذي أرفضه ويرفضه عدد هائل من الجمهور الذي صار أكثر تديناً من ذي قبل، جاء بشكل مهذب وموظفا درامياً، رغم أني لا أقبل بوجوده بشكلِ صريح على الإطلاق، وأرى أنه من الممكن استبداله بتلميح خفي ذكي، لكن إلقاء نظرة على الأفلام الأخرى التي تتاجر بالغرائز والرغبات والشهوات، تجعلني أقول "نُص العمى ولا العمى كله، واللي يشوف فجاجة جنس الآخرين يهون عليه جنس داوود عبد السيد"!
في بعض المشاهد ستشعر أن البحر إسقاط على رب العزة الذي يرسل إلينا بين الحين والآخر رسائل خفية بعضنا يفهمها ويفك شفراتها، والبعض الآخر يقف أمامها حائراً دون أن يدرك مغزاها، خاصة حين يقول "يحيى" للبحر: "جيت لك وأنا مش محتاج وأدتني رزقي، ودلوقتي جاي لك وأنا جعان وبتبخل عليّ.. ظلم ده ولاّ فوضى؟".. فإذا بالبحر بعدها يرسل إليه رسالة بلغة غير مفهومة، لكنها تصل به في النهاية إلى السعادة التي كان يبحث عنها.. هؤلاء هم البشر الذين يفقدون أشياء كانوا يظنون أنها أغلى ما يملكون، فيتمردون على القدر ويلومون الخالق، فإذ بالأيام تخبرهم أن فقدهم لما كانوا يظنون أنه أعز ما يملكون، هو السبيل للوصول إلى السعادة الحقيقية التي كانت غائبة عنهم، ويتضح ذلك في نهاية الفيلم التي تجد فيها أن ظلم الآخرين لك بهدف تحقيق مكاسبهم من ورائك، قد يصل بك إلى المكسب الذي ظلموك من أجل أن يفوزوا به، لكن الله منحك إياه وحرمهم منه.. تلك هي رسالة الله للبشر.. وتلك هي "رسائل البحر" ولله المثل الأعلى بالطبع.
بسمة أثبتّ أن الفنان يولد مرتين!كلمات أخيرة:
الجمهور: البعض سيرى الفيلم كعمل فني ظريف، والبعض الآخر سيراه حدوتة طويلة لم يفهمها، بينما هناك بعض ثالث سيصفق وينبهر ويضحك ويبكي مع كل مشهد، ليدخل بعدها الفيلم من جديد فور انتهائه، وهذا هو الجدل الذي يؤكد نجاح الفيلم وعبقريته!
يسري نصر الله: أثبتّ أنك مؤلف فذ، لكنك تستخسر أفلامك في مخرج سواك، ومخرج قدير لكنه لا يبخل بإخراجه عن الفنانين والجمهور.
صلاح عبد الله: أنت الوحيد الذي سيترك للأجيال القادمة جملا وإفيهات تدوم مثلما ترك لنا توفيق الدقن والمعلم رضا ومحمود المليجي -رحمهم الله- جمل تتوارثها الأجيال.. "واللي ما يقولش آه.. يقول آآآآآه"!
بسمة: في هذا الفيلم أثبتِّ أن الفنان يولد مرتين!
آسر ياسين: دورك كان للفنان أحمد زكي.. وهو الذي قام به فعلاً!