قالوها منذ زمنٍ بعيد: "ما محبة إلا بعد عداوة".. مَثَل شعبي طالما يثبت عبقريته التي يستمدها من انطباقه على معظم علاقات البشر فيما بينهم في كل زمان ومكان، لكن الجديد في "عسل إسود" أنه يُثبِت انطباق المثل على الأوطان أيضاً.
حلمي والنساء
تحقيقات صحفية غريبة، ومقالات أغرب، بل وحوارات صحفية مطولة أحياناً، لتناقش اختفاء البطولة النسائية من آخر فيلمين لـ"حلمي"، سواء "1000 مبروك" أو "عسل إسود"، وكأن الأمر ظاهرة غريبة تستحق النقاش، وإهدار المزيد من وقت القرّاء في تحليلها وتفسيرها، دون أن يفطن الإخوة الصحفيون والكُتّاب الذين راهن بعضهم على خياله الخصب، وذهب إلى أن "حلمي" يريد أن يُثبِت نفسه كبطل بمفرده دون الحاجة إلى بطلة، أو أنه "نفسن" من وجود نجمة معه تشاركه الأضواء والأجر، إن المغزى الحقيقي الذي راهن عليه "حلمي" في تجربتيه الأخيرتين أنه يعيش قصة حب بالفعل مع طرف آخر في كلا الفيلمين..
طرف يسعى إلى الارتباط به، لكن الظروف تتشابك وتتعقّد لتحول دون ذلك كعقدة الفيلم، قبل أن يكلل ارتباط كلا الطرفين بالنجاح في النهاية، غير أن الفارق الوحيد ها هنا، أن الطرف الآخر الذي أحبه "حلمي" كان طرفاً فقط تستشعر وجوده، وإن كانت عيناك تعجز عن مشاهدته في شاشة السينما، أو على أرض الواقع؛ إذ كان هذا الطرف هو "القدر" في "1000 مبروك"، و"مصر" في "عسل إسود"، ليخرج "حلمي" -الذى اعتاد دائماً أن يخرج- على "النغمة" الشهيرة التي ردّدها الكل منذ قديم الأزل أن "مصر هي أمي" مطلقاً شعاراً جديداً يقول "مصر هي المزة بتاعتي" رغم أنه لم ينطقها، إلا أنك تسمعها بعقلك وكيانك على مدار أحداث الفيلم، حتى يُكلل ارتباطه بحبيبته الحقيقية بالنجاح في النهاية، ويكون الذوبان في ترابها وجوِّها وشعبها هو "كَتب الكتاب"، لتتحوّل دار العرض إلى قاعة فرح، ويشارك كل المشاهدين البطل في ليلة الدخلة على البطلة الأصلية؛ إذ إنها الفتاة الوحيدة في الكون كله، التي تقبل القسمة على 80 مليون.
"تلك الأفلام"
لم يشهد التاريخ بقاء حضارة على عرش الكوكب طوال الوقت، لتتسابق الحضارات في لعبة "الكراسي الموسيقية" على عرش واحد، تأخذ كل منها نصيبها بالتربّع عليه لبرهة من الزمن، قبل أن تقتلعها حضارة أخرى، ولم يشهد شبّاك الإيرادات نجماً تربّع على رقم قياسي في نجاحات أفلامه طوال العصور، وبالمثل لن تشهد دور العرض فيلماً واحداً يُقبِل عليه الجمهور دون غيره من الأفلام التي تتزامن مع وقت نزوله، غير أن تلك الحالة الفريدة التي تستشعرها في "عسل إسود"، وهذه الأمانة الشديدة في حصر سلبياتنا بمصداقية مفرطة، بعيداً عن "كلام الأفلام" و"شعارات الكتب"، ستجعلك تعيد اكتشاف "مصر" من جديد..
ستضحك على وطنك، وعلى شعبه الذي تعدّ أنت أحد مواطنيه، وكأنك مواطن آخر من "أمريكا"، ثم تصفّق لهم، وتحيّيهم من كل قلبك، وتحسدهم، وتتمنّى أن تُصبح واحداً منهم، قبل أن تكتشف أنك "مصري" بالفعل.. "مصري" اسماً وفعلاً وبطولة مطلقة أيضاً.. فلا داعي إذن أن تلعب الصحافة لعبتها "القديمة" في متابعة أرقام الإيرادات، ومن الذي حقق أعلى نسبة مشاهدة؟ ومن هو فارس الموسم، وهل سيأكل "تامر حسني" النصيب الأكبر من الكعكة أم سيشاركه فيها "حلمي"؟ وماذا عن "مكي" و"محمد سعد"؟ وغيرها من العناوين التي اعتدنا على قراءتها منذ زمن.. فلا يصح أمام تلك الحالة "الوطنية" النظر إلى أي لغة أرقام أو أي مكاسب؛ إذ إن الفيلم في حد ذاته مكسب لكل من ظهر فيه، سواء "أحمد حلمي" أو "إدوارد" أو "لطفي لبيب"، أو "إنعام سالوسة" أو "إيمي سمير غانم"، وغيرهم من الوجوه الجديدة المتألّقة، بغضّ النظر عن عدد المشاهد، ومساحات الأدوار، أو أولئك الذين كتبوا أسماءهم على الأفيش، سواء المخرج والمونتير "خالد مرعي"، أو المؤلف "خالد دياب"، أو الشاعر الغنائي "أيمن بهجت قمر"، وذلك الموسيقار الرائع "عمر خيرت".. حيث أدّى الكل دوره في تلك "الملحمة" خير أداء.
أخطاء مشروعة
أكره بعد كل ما كتبت أن أكتب عن أخطاء وجدتُها -رغماً عني- في أحداث الفيلم، مثل أن يترك المتظاهرون "وسط البلد" الأرض الخصبة، والمهد الحقيقي لمعظم -إن لم يكن كل- المظاهرات، ليذهبوا ويتظاهروا في مدينة "الرحاب"، أو أن يجهل مواطن مصري قادم من أمريكا إلى مصر "سعر الدولار بكام جنيه"، وغيرها من الأخطاء التي لا أحبّذ حصرها حتى لا أحرق الأحداث، أو أبدو كمن يبحث عن أي خطأ والسلام، خاصة وأن هدف الفيلم النبيل، وكوميدياه السوداء التي تُضحكك حتى البكاء، وتُبكيك حتى الضحك، وروعة أداء كل جنود فريق العمل، تغفر له باقي الهفوات والصغائر.
كلمة أخيرة
* هذا هو الفارق بين فريق عمل يعرض سواد المجتمع وسلبياته بشكل "نظيف"، رغم كمّ "الوساخات" الضخم، وبين فريق عمل آخر يتاجر بتلك "الوساخات"؛ ليزيد من قبح الصورة، ويسبب للنفوس المزيد من التعفّن والازدراء.
* ذكر موقع الـ"إم. بي. سي" أن النجم "أحمد حلمي" تبرّع بملابس وإكسسوارات فيلمه "عسل إسود" إلى مستشفى سرطان الأطفال "57357" في مصر، وأسس "حلمي" على الموقع الرسمي الخاص بفيلمه المعروض حالياً ركناً خاصاً أطلق عليه "دكان عسل إسود"، حيث سيبيع من خلاله الإكسسوارات والملابس الخاصة بفيلمه الجديد، والأفلام السابقة، وسيتبرّع بعائدها إلى المستشفى.. كتبت من قبل في نقد فيلم "عزبة آدم" أن الفن يجب أن يكون له دور في النهوض بالمجتمع وعدم الاكتفاء بتسليط الأضواء على سلبياته فحسب، خاصة أن جمهور العشوائيات لا يشاهد أفلام العشوائيات التي تتحدّث عنه أصلاً، فأكّد البعض أن الفن غير مطالب بوضع أي حلول، وغير مكلّف بمساعدة الآخرين!.. أعتقد أن في تصرّف "حلمي" الإنساني الرد المناسب.
* طالما تمنّيت أن يفعلها "حلمي"، ويدخل حلبة الأفلام السياسية بذكائه وموهبته، ليُؤكّد صدق حدسي حين قلت -وأزعم أنني كنت أول من قال- إنه الزعيم الجديد للسينما المصرية، لكنني لم أتصوّر أن يفعلها بهذه "الصياعة"، وهذا الذكاء، ليمزج السياسة في الاجتماعيات بنعومة شديدة، لا تسبب الالتباس أو النفور في ذهن المُشاهد العادي، وتطرح العديد من الإيحاءات التي تحمل أكثر من معنى في ذهن المشاهد الذكي، ليشكّل "عسل إسود" ساندوتش يسهل هضمه على جميع أفراد الشعب.
* أدمنت الكتابة عن أفلام "حلمي"، بطريقة لا تقلّ عن إدماني لمشاهدتها، حتى صرت أنتظرها من موسم لآخر، وأتصارع لأفوز بالكتابة عنها.
